غسان !!
لم يكن حلماً ولم يكن واقعاً وكأنه لحن موسيقي تعزفه الروح في كنف الإيحاء ليملئك حياة دون أن تراه أو تتمكن من مصافحته أو لمس جبينه ، فغسان كان حلماً حيك في أقمشة الفكر وتناغم الأفق ؛ وكأنه أخصب في رحم الذاكرة لحظة محاولة الاعتقال الأول وأستمر نموه في تسعة أشهر من المطاردة والتشرد بين أقبية الوطن والوطن يفتشر وأمه أرضه ويلتحف سماءه تطربه زقزقة عصافير الصباح وتأرقه أصوات صراصير الليل حينما تفسد محاولت صراخه ليخبر أمه أنه ما زال حلماً لم يتحقق ويقنعها بأن لا فائدة من مخاضها في أقبية التحقيق وأزقة زنازين العزل الانفرادي لإنجابه ، وأن لا فائدة من أن ترسم له وجها متقن الملامح بشعر مجعد وجبين واسع ، وأن لا متسعٌ هناك ليخبرها بأن الغمازة التي ستتوسط لحيته لن تليق به كثيراً ، كما أنه لا يعتزم أن يزرع شارباً في وجهه ، وأن جدلية ما حالت بينه وبين عشقه لعينين لوزيتين طالما حملِت بهما ، ثم أن كنفان الحروف لن يكون ملاذ فراره من واقع مؤلم فهو يريد عالماً أكثر حيوية ، فهو يريد أن يكتب أسمه على سلم موسيقي بدلاً من كتابته على سطر واحد في ورقة فارغة هو عنوانها، وأنه لم يعتنق دين الحياة لكي لا يحاكي الضجر بين أيامها ويرتل الخيبات حينما تأتي سيرة الوطن المنكوب ، أراد أن يعيش في قريته الصغيرة التي هجرت منها أمه لا أن يسمع وصفاً دقيقاً لها في ضوضاء المدينة ، ولأنه يكره تلك التراجيدية المتشابة كأوراق الأشجار في حياة الآخرين قرر أن يكون مختلفاً فعاش فكرة أستوحيت معالمها من كلمات درويش المتقنة ليكون حياً في مكان ما ويعرف ما يريد ، فهو من يقرع جدار الخزان في رحلة الخوف ويعلق ناقوس الخطر في ضمائرنا النائمة ليحاكي بها حلم وجوده.
قد يكون حيز الوجود لم يتسع له ليمتثل جسداً مادياً فيتبادل وإيانا الحديث ونلمح ملامحه المستوحاة من أدب الثورة فوق تراب الوطن وبين حشود المنتفضين ، ولم يعتلي صهوة جواد الحياة ليكون بصيص ضوء في نفقها المظلم إلا أنه كشف عن انتفاضة ما بقيت في صراع فكرنا حول آلية الوجود وصراعها القائم بين المادية والروح ، فلقناعة ما لديه تكفر بالماديات وتزهر فكراً مع نسمات الربيع وتؤمن أن الوجود المادي غالباً ما يكون للتراب ؛ وأن البقاء لوجود الفكرة الإنسانية إبتدع طريق حياة خاصه به فإختلق من قعقعة القيود إسما له بدلاً من إسم يرثه ، فقد أراد يولد حراً والحياة زنانة كبيرة تضيق به أراد أن يكون حراً باسمه وفكره ووطنه يحتسي قهوته في سفاح جبال القدس ويختار عطره المفضل من عبق بيارات يافا ويبوح بكامل أسراره للبحر في عكا ويردد ألحان الفلاحين في موسم الحصيد ويروي الروايات عن أبطال أفتدوا بدمائهم أرض الرسالات ومهبط الأنبياء لقوافل التجار القادمين من أرض الكنانة محملين بعبق الحضارة الفرعونية إلى الشام والعراق ليبتاعو منها قليلا من حضارة بلاد الرافدين وعبق ياسمين الشام ويؤكد لهم أن من ينهل من مياه نيلها وفراتها لا بد له يدرك ما تبقى من الرواية لأن في مياههما مزيجاً من الحضارة والأدب فيكسر حاجز اللاوعي وينهض من شات الخيال كخطاب ثوري لقائد معركة لحظة الانتصار فيعتلي أسوار القدس ويقرع الأجراس في كنيستي المهد والقيامة ، أراد أن يكون من يكمل تفاصيل الرواية في آخر صفحات التاريخ إلا أن قدر ما منعه من الوجود فبقي الشيء الوحيد الي ينقص الحياة ولن تكتمل إلا بوجوده فغسان الفكرة والفكرة لم تؤد بعد .
غسان!! هي محاكاة لقصة واقعية لإمرأة فلسطينية مناضلة قضت أكثر من إثنا عشر عاماً في سجون الاحتلال لتحرم من حلمها بالزواج وإنجاب طفل تسميه غسان تيمناً بغسان كنفاني

اشترك في بريدنا الالكتروني لتتوصل باشعار فور نشر موضوع جديد
0 الرد على "غسان !!"
إرسال تعليق